فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَارًا قَالَ لاَِهْلِهِ امكثوا}.
لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة.
وعن ابن عباس قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام، وورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس.
والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث: «والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا».
وفي سفر الخروج: أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله.
وبقية القصة تقدمت في سورة [النمل: 7] إلا زيادة قوله: {آنس من جانب الطور نارًا} وذلك مساوٍ لقوله هنا {إذ رأى نارًا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارًا} والجذوة مثلث الجيم، وقرىء بالوجوه الثلاثة، فالجمهور بكسر الجيم، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها، وهي العود الغليظ.
قيل مطلقًا وقيل المشتعل وهو الذي في القاموس.
فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص، وإن كان الثاني فهو وصف كاشف، و{من} على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية.
{فَلَمَّآ أتاها نُودِىَ مِن شَاطِىءِ الوادى الأيمن}.
تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل {أتاها} هنا و{جاءها هناك} [النمل: 8] و{إني أنا الله} هنا، و{إنه أنا الله هناك} [النمل: 9] بضمير عائد إلى الجلالة هنالك، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم.
وقوله هنا {رب العالمين} وقوله هنالك {العزيز الحكيم} [النمل: 9].
وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ.
والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف {رب العالمين} يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة.
و{أن ألق} هنا و{ألق هناك} [النمل: 10]، و{اسلك} هنا {وأدخل هناك} [النمل: 12].
وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها، وإلا زيادة {من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} وهذا واد في سفح الطور.
وشاطئه: جانبه وضفته.
ووصف الشاطىء بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار يريدون هذا المعنى قال امرؤ القيس:
على قطن بالشيم أيمن صوبه ** وأيسره على الستار فيذبل

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل، أي جهة مغرب الشمس من الطور.
ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنًا لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شامًا لأنه على شآم المستقبل لبابها، أي على شماله، فاعتبروا استقبال الكعبة، وهذا هو الملائم لقوله الآتي {وما كنت بجانب الغربي} [القصص: 44].
وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه: 80] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك.
وإن حمل على أنه تفضيل من اليُمن وهو البركة فهو كوصفه ب {المقدس} في سورة [النازعات: 16] {إذ ناداه ربه بالوادِي المقدس طُوى}.
و{البقعة} بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها.
و{المباركة} لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى.
وقوله: {من الشجرة} يجوز أن يتعلق بفعل {نُودِي} فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون {من} للابتداء، أي سمع كلامًا خارجًا من الشجرة.
ويجوز أن يكون ظرفًا مستقرًا نعتًا ثانيًا للواد أو حالًا فتكون {من} اتصالية، أي متصلًا بالشجرة، أي عندها، أي البقعة التي تتصل بالشجرة.
والعريف في {الشجرة} تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذ لم يتقدم ذكر الشجرة، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العُلَّيق وهو من شجر العضاه وقيل: هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضًا.
وزيادة {أقبل} وهي تصريح بمضمون قوله: {لا تخف} في سورة [النمل: 10] لأنه لما أدبر خوفًا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازًا وكان هنا مساواة تفننًا في حكاية القصتين، وكذلك زيادة {إنك من الآمنين} هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد {ولا تخف}.
وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد ب إن وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال: إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى: {أن أكون من الجاهلين} في سورة [البقرة: 67].
وقوله: {واضمم إليك جناحك من الرهب} خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى.
وهي ألفاظ: جناح، ورهب، وحرف {من}.
فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر.
وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري.
قال بعضهم: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا وإن قوله: {من الرهب} متعلق بقوله: {ولى مدبرًا} على أن {من} حرف للتعليل، أي أدبر لسبب الخوف، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل {ولى} وبين {من الرهب}.
وقيل الجناح: اليد، ولا يحسن أن يكون مجازًا عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله: {اسلُك يدك في جيبك} وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد.
وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد، أو يئول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عُزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد.
وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان.
وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن.
ولذا فالوجه أن قوله: {واضمم إليك جناحك} تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف.
ويكون {من} هنا للبدلية، أي اسكن سكون الطائر بدلًا من أن تطير خوفًا.
وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل: وأصله لأبي علي الفارسي.
و{الرهب} معروف أنه الخوف كقوله تعالى: {يدعوننا رغبًا ورهبًا} [الأنبياء: 90].
والمعنى: انكفف عن التخوف من أمر الرسالة.
وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده {قال رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون} [القصص: 33] فقوله: {واضمم إليك جناحك من الرهب} في معنى قوله تعالى: {فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35].
وقرأ الجمهور {الرهب} بفتح الراء والهاء، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء.
وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة.
{مِنَ الرهب فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ}.
تفريع على قوله: {واضمم إليك جناحك من الرهب} والإشارة إلى العصا وبياض اليد.
والبرهان: الحجة القاطعة.
و{من} للابتداء، و{إلى} للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم.
وجملة {إنهم كانوا قومًا فاسقين} تعليل لجملة {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه} لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله: {كانوا}.
وقوله: {قومًا} كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
والفسق: الإشراك بالله.
وقرأ الجمهور {فذانك} بتخفيف النون من ذانك على الأصل في التثنية.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون {فذانك} وهي لغة تميم وقيس.
وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من ذا وتا المحذوفة لأجل صيغة التثنية.
وفي الكشاف: أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك.
وهذا أحسن. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29].
أي: الذي اتفق عليه مع شعيب عليه السلام {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] قلنا: إن الأهل تُطلق على الزوجة، وفي لغتنا العامية نقول: معي أهلي أو الجماعة ونقصد الزوجة؛ لذلك لأن الزوجة تقضي لزوجها من المصالح ما لا يقدر عليه إلا جماعة، بل وتزيد على الجماعة بشيء خاص لا يؤديه عنها غيرها، وهو مسألة المعاشرة؛ لذلك حَلَّتْ محلَّ جماعة.
ومعنى {آنَسَ} [القصص: 29] يعني: أبصر ورأى أو أحسَّ بشيء من الأُنْس، {الطور} [القصص: 29] اسم الجبل {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} [القصص: 29] انتظروا {إني آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29] يخبرها بوجود النار، وهذا يعني أنها لم تَرَها كما رآها هو.
وهذا دليل على أنها ليست نارًا مادية يُوقِدها بشر، وإلا لاستوى أهله معه في رؤيتها، فهذا إذن أمر خاص به {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29] يعني: رجاءَ أنْ أجد مَنْ يخبرنا عن الطريق، ويهدينا إلى أين نتوجه {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
الجذوة: قطعة من نار متوهجة ليس لها لَهَب، ومعنى تصطلون أي: تستدفئون بها، وفي موضع آخر قال: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] يعني: شعلة لها لسان ولهب، فمأربهم- إذن- على هذه الحال أمران: مَنْ يخبرهم بالطريق حيث تاهَتْ بهم الخُطَى في مكان لا يعرفونه، ثم جذوة نار يستدفئون بها من البرد.